الفشل البنّاء
أعظم المخترعين والمكتشفين ورؤساء الدول والسلاطين والصناعيين والمبتكرين والاقتصاديين والإعلاميين والموسيقيين والرياضيين.. كلهم يجمعهم شيء واحد. كلهم فشلوا فشلاً ذريعاً قبل أن ينجحوا، كلهم فهموا المعنى الحقيقي للفشل فاحتضنوه، بل جعلوا من كل فشل لبنة في بناء نجاحهم.. كلهم طبقوا مفهوم (الفشل البنَّاء).
عانى من مشاكل في السمع في سن مبكرة، وصفه مدرسوه في المدرسة بـ(المغفل) و(شديد الغباء) الذي لا تجدي محاولات تعليمه. ترك المدرسة بعد ثلاثة أشهر من دخولها فدرسته أمه في البيت، فانكب على قراءة كل ما يقع بين يديه من كتب وموسوعات وصحف ومجلات، وأطلقت يديه ليختبر ما يشاء فأعد مختبر كيمياء في منزله وهو في العاشرة من عمره، وكان يعمل في السوق بائعاً للخضروات، ثم بائعاً للحلوى والصحف في القطارات حتى طرد من عمله بعد اشتعال النيران بمختبره الكيميائي في عربة نقل في محطة القطارات وأُلقي به في الشارع، مما جعله يتفرغ للأبحاث والتجارب.
كان يقول: والدتي صنعتني، فاحترامها لي وثقتها بي أشعرتني أني أهم شخص في الوجود، فعاهدت نفسي ألا أخذلها كما لم تخذلني قط. سجل 122 اختراعاً ولمَّا يبلغ الثالثة والعشرين من عمره. يعد أحد أعظم المخترعين وأكثرهم إنتاجاً في التاريخ، فامتلك 1093 براءة اختراع وأكثر من 1300 جهاز وأداة علمية كان لها الأثر الواضح في حياة إنسان العصر الحديث.
مرضت أمه مرضاً شديداً فقرر الأطباء إجراء عملية جراحية فورية لها، ولكن الليل حال دون ذلك لانعدام الضوء الكافي لإجراء العملية، فاضطروا إلى الانتظار حتى شروق الشمس، فقرر أن يخترع مصباحاً كهربائياً متوهجاً عملياً تجارياً طويل الأجل. فشل في ألف محاولة حتى نجح، وكان يسمي كل تجربة فاشلة خطوة في سبيل تحقيق النجاح. ويقول: أنا لم أفشل، بل وجدت ألف طريقة لا يمكن للمصباح أن يعمل بها، ولم أكن لأنجح في اختباراتي لو لم أدرك حاجات البشر، كنت أرى حاجات الناس ثم أبدأ بالاختراع.
فقد مختبره في حريق كبير عام 1914 وعمره يناهز الـ67 عاماً. وفي الصباح التالي كان يقول: “هناك فائدة عظيمة لما حصل البارحة، فقد احترقت كل أخطائي فالشكر لربي لأنني يمكنني البدء من جديد”. وبعد ثلاثة أسابيع فقط اخترع أول مشغل أسطوانات (فونوجراف)، ومن اختراعاته آلة التصوير السينمائي، وتطوير الآلة الطابعة والهاتف والحاكي وجعل صناعة التلفزيون ممكنة.. وغيرها كثير.
أسس أكثر من 14 شركة منها شركة GE” General Electric” العالمية.. يقول: “كل شخص يفكر في تغيير العالم ولكن قليلين هم من يفكرون في تغيير أنفسهم”، ويقول: “سقوط الإنسان ليس فشلاً، ولكن الفشل أن يبقى حيث سقط، فالأشخاص الذين فشلوا في الحياة هم أشخاص لم يتعلموا كم كانوا قريبين من النجاح عندما استسلموا للفشل”.. إنه توماس إديسون.
يقول المؤلف جون ماكسويل في كتابه Failing Forward: “أنت الشخص الوحيد القادر فعلاً على تسمية ما تفعله فشلاً.. وكل عبقري كان يمكن أن يصبح فاشلاً”.
في دراسة معروفة عام 1998 قام كل من كارول دويك وكلوديا مولر بدراسة على 128 طفلاً في العاشرة من العمر، وتم تقسيمهم إلى مجموعتين وإعطاؤهم اختبارا بسيطا في الرياضيات نجح فيه الجميع، وأُثني في المجموعة الأولى على ذكاء الطلبة وأنه سبب نجاحهم، أما المجموعة الثانية فقد أُثني على الجهد المبذول من الطلبة وأنه سبب نجاحهم، ثم أعطي الطلبة اختبارا صعبا جداً وقيل للجميع إنهم فشلوا في الاختبار، ثم في المرحلة الثالثة أعطي الجميع اختبارا سهلا جداً مرة أخرى لدراسة تأثير الفشل في المجموعتين أيهما سيحقق نتائج أفضل: من أُفهِم أن سبب نجاحه هو ذكاؤه أم من أُفهِم أن سبب نجاحه هو جهده الذي بذله؟ وكانت المفاجأة أن المجموعة الأولى التي أُفهِمت أن ذكاءها كان وراء نجاحها أدت نتائج أقل من المجموعة الثانية التي أُفهِمت أن الجهد المبذول هو سبب النجاح بنسبة 25%، بل وجد أن المجموعة الأولى لامت ذكاءها أو صعوبة الاختبار بدلاً من جهدها، ولم يلقوا بالاً للجهد وهو الأمر الوحيد الذي يتحكم فيه الإنسان وهو عامل النجاح الرئيسي الأول، بل وجد أنهم أقل استمتاعا بالاختبار وأسرع يأسا واستسلاما وأقل رغبة في القيام باختبارات أخرى.
وقد أكدت دراسات أخرى كثيرة هذه النتائج، وهذا ما يؤكده إديسون عندما قال: “العبقرية 1% إلهام و99% عمل وجد واجتهاد”. وقد وجد أن طريقة عمل الدماغ لدى كل من الناجحين والفاشلين مختلفة تماما، فبناء على دراسات عالمة النفس كارول دويك فإن النجاح والفشل يعتمدان على طريقة التفكير، فهناك نوعان من الدماغ، الأول ما يسمى بالدماغ المرن المتطور القادر على النمو، والثاني الدماغ الثابت غير المتطور وغير القادر على النمو، فالدماغ المرن المتطور يقبل التحدي ويغتنمه كفرصة، بينما يتفاداه الدماغ الثابت، والدماغ المرن يثابر ويصر ويثبت عند الحواجز والعراقيل والعثرات، ولكن الدماغ الثابت يستسلم ويتنازل وييأس. والدماغ المرن يرى في الجهد سبيلاً للانتصار، أما الدماغ الثابت فيراه غير مجدٍ، والدماغ المرن يرى في الانتقاد طريقة للتعلم، وأما الدماغ الثابت فإنه يتجاهله ويرفضه، والدماغ المرن يرى في نجاح الآخرين دروساً ومصدر إلهام، أما الدماغ الثابت فيرى فيه تهديداً له.
في كتابه Adapt أي تأقلم وتكيف، يجيب المؤلف تيم هارفورد عن سؤال: لماذا النجاح دائماً يبدأ بالفشل؟ فيؤكد قائلاً: “على قدر ما تكون المشكلة معقدة وغامضة على قدر ما يكون أسلوب التجربة والخطأ أكثر فعالية في إيجاد الحل”. وهذا يتطلب دماغاً مرناً وقلباً شجاعاً لا يخاف من المحاولة أو الخطأ أو الفشل، بل يدرك أن الفشل هو السبيل الوحيد للنجاح. بل صرحت إحدى دوريات الأعمال أن أعلى نسبة في الانتحار وتعاطي المخدرات والانهيار العصبي يمكن إرجاعها إلى رغبة الناس في تدريب أنفسهم على النجاح، بينما يجب التدريب على الفشل. حيث أثبتت الدراسات أن أصحاب المشاريع يفشلون في المتوسط أربع مرات قبل أن يدركوا النجاح في أعمالهم، ولذلك فإن الناجح يفكر في الحل والفاشل يفكر في المشكلة، والناجح لا تنضب أفكاره والفاشل لا تنضب أعذاره، الناجح يرى حلاً في كل مشكلة والفاشل يرى مشكلة في كل حل، الناجح يساعد الآخرين والفاشل يتوقع المساعدة من الآخرين، الناجح يعامل الناس كما يحب أن يُعَامل، والفاشل يخدع الناس قبل أن يخدعوه، الناجح يرى في العمل أملاً فيصنع الأحداث، أما الفاشل فيرى في العمل ألماً فتصنعه الأحداث. ولذلك يقال إن الإنسان لا يُهزم من خصومه ولكنه يُهزم من نفسه ومن توجهه النفسي تجاه الفشل ورد فعله للهزيمة، ومفتاح النجاح أن يعمل الإنسان خارج دائرة راحته وداخل دائرة قوته، وهذا ما جسدته قصة مهمة سنستعرضها إن شاء الله في مقال قادم.
الدكتور وليد فتيحي
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire