فضل العشر الأواخر من رمضانَ وليلة القدر
الحمد لله الّذي فضل من رمضانَ العشرَ الأواخر، وأودعها الفضائل والمفاخر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ خصّ هذه الأمّة بليلة القدر، وجعل العمل فيها خيراً من ألف شهر، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله؛ خير من جدّ في هذه العشر وشمّر، وأحيا ليله وشدّ المئزر؛ صلّى الله عليه وسلّم، وعلى آله وصحبه الأنجم الدّرر، والقدوة الغرر.
وقد روى مسلم في (صحيحه) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ -أي: من رمضان- مَا لاَ يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ»، وفي الصّحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ». ومعنى (شدّ المئزر) أي: اعتزل النّساء ؛ كما فسّره بذلك سفيان الثّوريّ وغيره من العلماء. وإنّما كان النّبيُّ صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله في هذه الليالي الطّيّبات ؛ ليتقرّبوا إلى الله سبحانه بالصّالحات، ويشهدوا ما فيها من الخيرات، وينالهم ما فيها من الرّحمات والبركات.
وهكذا كان الصّحابة رضي الله عنهم والسّلف الصّالحون يجتهدون في العبادة باللّيل وإلى الله يتقرّبون، ولفضله ورحمته يتعرّضون، ويأمرون بذلك أهليهم ولهم يوقظون؛ فها هو عمر بن الخطّاب رضي الله عنه -كما في (موطّأ مالك)- : «كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أَيْقَظَ أَهْلَهُ لِلصَّلاَةِ، يَقُولُ لَهُمُ: الصَّلاَةَ! الصَّلاَةَ!، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الآيَةَ: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾»، وقال سفيان الثّوريّ رحمه الله: «أحبُّ إليّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجّد باللّيل، ويجتهد فيه، وينهض أهله وولده إلى الصّلاة إن أطاقوا ذلك» .
وهذا لما في هذه اللّيالي من الأجر العظيم والفضل العميم، الّذي لا يزهد فيه إلاّ محروم، ولا يفوِّته إلاّ مغبون، كيف لا؟! وفي هذه اللّيالي ليلة القدر؛ الّتي جعلها الله خيراً من ألف شهر، وعظّم سبحانه شأنها، ورفع أمرها وقدرها؛ فقال جلّ وعلا: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾، قال الزّهريّرحمه الله: «سمّيت ليلة القدر لعظمها وقدرها وشرفها» .
وفي هذه اللّيلة ابتدأ نزول القرآن، الّذي جعله الله رحمة وهدى لبني الإنسان، وفيها يُفصل ويُقضى كلُّ أمر حكيم، ويُقدّر ما يكون في السّنّة كلِّها بإذن العزيز العليم؛ قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾. والعمل الصّالح فيها خير من العمل في ألف شهر؛ قال -عزّ وجلّ-: ﴿َليْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾؛ قال مجاهد رحمه الله: «عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر». وتنزل الملائكة فيها ومعهم جبريل الرّوح الأمين من السّماء؛ بكلِّ خير وبركة ونعماء؛ كما قال ذو الجلال والكبرياء: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾؛ أي: بكلّ أمر؛ قضاه وقدّره الله -عزّ وجلّ-، وقد قال الحسن البصريُّ رحمه الله: «إذا كان ليلة القدر لم تزل الملائكة تخفقُ بأجنحتها بالسّلام من الله والرّحمة من لدن صلاة المغرب إلى طلوع الفجر»؛ فهي ليلة سلام وأمان للمؤمنين؛ من كلّ شرٍّ وسوء، ومن عذاب ربِّ العاملين؛ لكثرة من يعتق فيها من النّار من العصاة المذنبين؛ ولهذا قال عزّ وجلّ:﴿سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾.
ومن هنا رغّب النّبيُّ صلى الله عليه وسلم أمّته في تحرِّيها في العشر الأواخر من شهر الصّيام، وحثّهم على طلبها وإصابة فضلها بالعبادة والقيام؛ فقال -كما في الصّحيحين-: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» ، وهي في الأوتار من هذه اللّيالي أرجى منها في الأشفاع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم-فيما رواه البخاريّ-: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ»، والسبع البواقي من هذه اللّيالي أقرب لوقوعها، وأرجى لمجيئها؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: « أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيَّصلى الله عليه وسلم أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ -أي: اتّفقت- فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ؛ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ»[متّفق عليه]، ولمسلم: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ؛ فَلاَ يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي».
فهذه اللّيلة إذاً: لا تختصُّ بليلة السّابع والعشرين؛ خلافاً لما يظنّه كثير من المسلمين؛ بل هي متنقّلةٌ -على الرّاجح-؛ فتكون في عام ليلة السّابع والعشرين -كما وقعت ليلتها في زمانه صلى الله عليه وسلم ، وجزم بذلك بعض الصّحابة رضي الله عنهم أجمعين-، وفي عام آخر ليلة خمس وعشرين، أو تسع وعشرين؛ أو غير ذلك من اللّيالي الوتر؛ بدليل أنّها وقعت في زمنه صلى الله عليه وسلم ليلة ثلاث وعشرين؛ كما ثبت في (صحيح مسلم) عَنْ بسر بن سعيد عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا وَأَرَانِي صُبْحَهَا أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ». قَالَ: «فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْصَرَفَ وَإِنَّ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ». قَالَ: «وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ يَقُولُ: ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ». وفي الصّحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أنّها كانت ليلة إحدى وعشرين.
ويؤكّد هذا: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه رضي الله عنهم -وأمّته من بعدهم- أنّه قد رفع تعيينها؛ حتّى يجتهد العباد في طلبها، وتحصيل فضلها، وحتّى يتبيّن من كان جادًّا في إصابتها، ممّن كان مفرّطاً كسلانَ في شأنها، مكتفياً بقيام ليلة واحدة من لياليها؛ ففي صحيح البخاريّ عن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه قال: «خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ ، فَتَلاَحَى-أي: تنازع وتخاصم-رَجُلاَنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ».
ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في (فتح الباري) (4/266)- بعد أن ذكر أقوال العلماء فيها-: «وأرجحها كلها أنها في وترٍ من العشر الأخير، وأنها تنتقل كما يفهم من أحاديث هذا الباب».
ولكن ينبغي أن يعلم أن الوتر له اعتباران: اعتبارٌ بما مضى، واعتبارٌ بما بقي؛ فإذا كان الشّهرٌ تامًّا فالأوتار باعتبار ما بقي هي ليالي الشّفع، وهذا ما دلّ عليه ظاهر السنّة والأثر؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم -فيما رواه البخاريّ-: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى ، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى ، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى».
قال الطِّيبيُّ: - كما في (عون المعبود) (4/ 257) -«قوله: (في تاسعة تبقى) الليلة الثانية والعشرون؛ تاسعة من الأعداد الباقية، والرابعة والعشرون سابعة منها، والسادسة والعشرون خامسة منها».
وجاء حديث عبادة الصّامت رضي الله عنه السّابق في (صحيح مسلم) من رواية أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه، وفي آخره: قال أبو نضرة: «قُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ! إِنَّكُمْ أَعْلَمُ بِالْعَدَدِ مِنَّا. قَالَ: أَجَلْ! نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكُمْ. قَالَ: قُلْتُ: مَا التَّاسِعَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ؟ قَالَ: إِذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَهْيَ التَّاسِعَةُ، فَإِذَا مَضَتْ ثَلاَثٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ، فَإِذَا مَضَى خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ».
وروى البخاريُّ في (صحيحه) عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ هِيَ فِي تِسْعٍ يَمْضِينَ أَوْ فِي سَبْعٍ يَبْقَيْنَ؛ يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ». قال البخاريُّ: «وَعَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْتَمِسُوا فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -كما في (مجموع الفتاوى) (25/ 284- 285)-: «ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان؛ هكذا صحّ عن النّبيّ أنّه قال: «هي في العشر الأواخر من رمضان»، وتكون في الوتر منها؛ لكن الوتر يكون باعتبار الماضي؛ فتطلب ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين.
ويكون باعتبار ما بقي؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لتاسعة تبقى، لسابعة تبقى، لخامسة تبقى، لثالثة تبقى» [رواه البخاريّ والطيالسيّ، واللّفظ للثّاني]؛ فعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين يكون ذلك ليالي الأشفاع، وتكون الاثنين والعشرين تاسعة تبقى، وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى، وهكذا فسره أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح ... وإن كان الشهر تسعاً وعشرين كان التاريخ بالباقي كالتاريخ الماضي.
وإذا كان الأمر هكذا؛ فينبغي أن يتحرّاها المؤمن في العشر الأواخر جميعه».
هذا؛ وممّا يحسن التّنبيه عليه: أنّ الله تعالى ما أخفى علينا ليلة القدر إلا لنجتهد في طلبِها، ونزداد رغبة في نيل فضلها وثوابها، وليتميّز الّذين يسارعون في الخيرات؛ ممّن يتّبعون المغريات، ويستثقلون الطّاعات كلّما توالت اللّحظات، ومع ذلك فقد أخبرنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعلامات نستدلُّ بها على وقوعها، ونهتدي بها إلى معرفتها.
* فمن ذلك: أنّ ليلة القدر ليلة طيّبة معتدلة، لا حارّة ولا باردة؛ كما ثبت في (صحيح ابن خزيمة) عن ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قوله في ليلة القدر: «لَيْلَةٌ طَلْقَةٌ-أي: سهلة طيّبة-، لاَ حَارَّةٌ وَلاَ بَارِدَةٌ».
* ومنها: أنّها ليلة مضيئة؛ يظهر فيها النّور جليًّا، ولا يُرمى بنجم ليلتها ؛ لانخناس الشّياطين وصَغارهم فيها؛ كما روى الطبرانيّ عن واثلة بن الأصقع رضي الله عنه عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال:«لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةٌ بَلَجَةٌ؛ لا حَارَّةٌ وَلا بَارِدَةٌ، وَلا يُرْمَى فِيهَا بِنَجْمٍ».
* ومن علاماتها كذلك: ما ثبت في (صحيح مسلم) عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لاَ شُعَاعَ لَهَا».
فهذه هي علاماتها الصّحيحة وأماراتها الثّابتة في السّنّة النّبويّة والآثار المرويّة، لا ما حيك حولها ولفّق في شأنها من أمور خيالية وخرافات واهية؛ لا يخفى بطلانها واختلاقها على أصحاب القلوب الواعية، وليست معرفة هذه الأمارات شرطاً في حصول ثوابها وإدراك فضلها؛ بل إنّ فضلها يحصل لكلّ من أحياها إيماناً واحتساباً، واجتهد لله سبحانه بالعبادة رغباً ورهباً؛ وذلك ثابتٌ يقيناً لكلّ من قام اللّيالي العشرَ كلّها، ولم يفوّت ليلة منها.
فينبغي الاجتهاد في طلب ليلة القدر، بالإقبال على العبادةِ في جميع العشر؛ حتّى يصيب العبد هذه الليلة الغرّاء، ويكون بها من السّعداء، وليُعلم أنّ أفضل الأعمال في هذه الليلة المباركة: الصّلاةُ، والدُّعاءُ.
أمّا الصّلاةُ: فقد قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم -كما في الصّحيحين-: «مَنْ قَامَ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»؛ أي: إيماناً بالله، وبما أعدّه من الثّواب للقائمين، واحتساباً للأجر الّذي يكون عنده يوم الدِّين.
وأمّا الدُّعاءُ: فقد ثبت في (سنن التّرمذيّ) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي»، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في (صحيح مسلم)-: «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ»، ولهذا قال سفيان الثوريُّ رحمه الله: «الدُّعاء في تلك الليلة أحبُّ إليّ من الصّلاةِ»؛ يعني: من الصّلاة الّتي لا دعاء فيها، أو يقلُّ فيها الدُّعاء، ومن صلّى ودعا يكون قد جمع بين الحسنيين، وهذا أكمل الحالين .
وقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعتكف في المسجد ويلزمه فلا يخرج منه في العشر الأواخر؛ تفرّغاً لعبادة الله -عزّ وجلّ-، وطلباً لثواب الله وفضله بإحياء ليلة القدر، وتزوّداً من الأعمال الصّالحة في موسم الأجر، وحملاً للنّفس وتدريباً لها على الصبرِ على فعلِ الطّاعةِ وخصالِ البرّ؛ ففي الصّحيحين عن عائشة رضي الله عنها : «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ»، وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوَّلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ؛ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ». ولهذا روى ابن المنذر عن الإمام ابن شهاب الزّهريّ رحمه الله أنه كان يقول: «عجباً للمسلمين تركوا الاعتكاف، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه منذ دخل المدينة حتّى قبضه الله».
ألا فاجتهد يا رعاك الله! في طلب ليلة القدر من رمضان، واحذر أن تكون من أهل الحرمان؛ الّذين آثروا اللّهو واللّهث وراء الدّنيا وغشيان العصيان في هذه العشر الأواخر على طلب رحمة الله، وتلمّس العفو والغفران؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم عن هذا الشّهر -فيما رواه ابن أبي شيبة والنسائيّ-: «فِيهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ؛ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ».
ألا فلنحرص جميعاً على الطّاعة والعبادة في هذه العشر، ولنري الله تعالى خيراً من أنفسنا في بقيّة الشّهر؛ ولنتزوّد منه بصالح الأعمال، ليوم الوقوف بين يدي الكبير المتعال، ولنغتنم لحظاته الحسان في الخير والإحسان، ولنستحضر دائماً أنّ الأعمال بالخواتيم، ولنحسن الختام.
فاللّهمّ كما بلّغتنا الشّهر؛ فوفقنا لليلة القدر، وأعظم لنا فيها المثوبة والأجر، واكتب لنا فيها رضوانك واغفر الزّلل والوزر؛ بمنّك وكرمك يا ذا المنّ والفضل؛ اللهمّ آمين!
والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على نبيّنا محمّد، وعلى آله، وصحبه أجمعين
بقلم/ نور الدين مسعي
الباحـث بإدارة الإفتـاء
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire